يتبين لنا إبان دراسة التطور التاريخي للمحاسبة، بأنها نشأت وتطورت نتيجة لمتطلبات فرضتها المعاملات التجارية، وهذا شيء متفق عليه بين أغلب المفكرين إن لم يكن جميعهم. بيد أن الشيء غير المتفق عليه هو الجزء المتعلق بـ “متى نشأت المحاسبة؟”. فالمحاسبة قديمة قدم الحضارة، بحيث تعتبر تجميع الثروة والحاجة إليها، وابتكار الكتابة لإثبات الثروة وتعقب المعاملات التجارية، وابتكار النقود للتبادل التجاري، وابتكار الأعمال المصرفية لتوفير النقود اللازمة للتمويل، هي الأسبقيات السبعة للمحاسبة (الملكية، رأس المال، التجارة، الائتمان، الكتابة، النقود، الحساب) كما وصفها Littleton، إذ ساهمت هذه الأسبقيات جملة في تقدم حضارات العالم القديم، فكان لا بد لأي دارس لتاريخ نشأة المحاسبة من تطرقه لها في إطار تتبع الحضارات التي قامت منذ القدم، وربطها بنشأة المحاسبة، فمستوى التطور المحاسبي غالبا ما يعكس التطور الحضاري القائم.
كانت بدايات الحضارة تتمثل في الانتقال من المجتمع الرعوي المتنقل إلى المزارع المقيم. فالزراعة استلزمت موقع ثابت مما أدى للاستقرار، وكذلك تحديد دقيق لفصول الحرث والحصاد وتطوير للمستوطنات. ومع تطور المجتمع المزارع، وجد الفائض في المحصول مما أدى إلى التخصص. فاعتمد الخزاف على المزارع في الأكل، والمزارع على الخزاف في الأدوات، وبذلك وجدت التجارة.
إن أقدم حضارة عرفها التاريخ، مدينة أريحا في فلسطين المحتلة وهي قريبة جدا لأريحا الحديثة. تبعد عشرة أميال شمال البحر الميت، وترجع للألف الثامن قبل الميلاد. على غرار ما تقدم، فان هذه المدينة لم تعتمد على الزراعة في غذائها، وإنما كانت مركز تجاري، تعتمد على الملح المستخرج من البحر الميت لمقايضته بالسلع المستوردة. وكبديل للكتابة، تم استخدام مصنوعات يدوية بسيطة من الطين في شكل كرات مجوفة تحوي رموز كناية عن المخزون السلعي أو الماشية. ومع مرور الوقت انتشرت هذه الرموز على نطاق واسع في الشرق الأدنى خلال الفترة من 5000 إلى 3000 قبل الميلاد، وتطورت من مجرد رموز بسيطة إلى أكثر تعقيدا وصولا إلى الكتابة المسمارية في بلاد سومر. هذه التطورات واكبتها تطورات في الزراعة، وصناعة الفخار، واستخدام البرونز في صناعة الأدوات، واستخدام ورق البردي في الكتابة، واختراع العداد في الصين وانتشاره في الغرب في وقت لاحق، والمنسوجات، وتشييد البنايات.
أدت هذه التطورات إلى نشوب المنازعات بين الشعوب خصوصا في منطقة الشرق الأوسط. فأينما وجدت الثروات وجدت السلطة، وأينما وجدت السلطة وجد النزاع. فهناك العديد من الحضارات العظيمة في العالم القديم تطورت في الشرق الأدنى وحول البحر الأبيض المتوسط مثل بلاد سومر، بابل، الإمبراطورية الآشورية، بلاد فارس، مصر، اليونان، روما. بيد أنه لم يكن هناك ارتقاء ثابت في الثقافة والحضارة، إذ أن “العصور الذهبية” تبعتها عصور مظلمة عند سقوط هذه الثقافات في أيدي البربر المحتلين. وكنتاج لهذه النزاعات، تطلب الأمر وجود نظام لكل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فقد تم سن القوانين المنظمة للعمليات التجارية، مثل قانون حامورابي في بابل. كذلك سكت العملات المعدنية لتسهيل عمليات المقايضة، وتطورت الأعمال المصرفية في اليونان، وفي وقت لاحق ظهرت الأبجدية الرومانية، كما ساهم المسلمون في تطوير نظام عددي مميز بإضافة الصفر إلى الأعداد الهندية ونشره في أوروبا.
وبذلك اكتمل ما يعرف بالأسبقيات السبعة للمحاسبة (الملكية، رأس المال، التجارة، الائتمان، الكتابة، النقود، الحساب). إذ ينتهي عند هذه النقطة تاريخ مبهم للمحاسبة غير واضح المعالم وبدا تاريخ المحاسبة بالقيد المزدوج. فالأحداث الكبرى لا تحدث فجأة، وإنما تكون نتيجة لعوامل ومقدمات تسبقها وتنتهي إليها. وكذا الأمر بالنسبة للقيد المزدوج، إذ جاء نتيجة للأسبقيات سالفة الذكر.
انطلاقا من مستوطنات صغيرة على ضفاف نهر التبت طور الرومان على مدار الألف سنة حضارة أصبحت فيما بعد حجر الزاوية للحضارة الغربية. هذه الحضارة استغلت أسبقيات المحاسبة أيما استغلال، وكان لها السبق في تطوير المحاسبة بالقيد المزدوج. ففي ظل هذه الحضارة انتشرت الأعمال الصغيرة من أصحاب المحلات الصغيرة والصناع والحرفيون الذين طوروا بدورهم سجلات مالية صغيرة مفصلة. وفي ظل الحملات الصليبية، فتحت قنوات تجارة مع الشرق، تم تطويرها عبر شبكات بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وهذا بدوره استلزم وجود سجلات مالية متطورة، ساعد القيد المزدوج على إعدادها.
ومع انهيار روما، ظهرت اسبانيا كقوة عالمية. فكانت في البداية اسبانيا والبرتغال وبعد ذلك هولندا وانجلترا. سيطرت انجلترا بشكل تدريجي، من خلال التجارة وممارسة الامبريالية، فمن خلال المستعمرات تحصلت على المواد الأولية بحيث تعود إليها سلع تامة الصنع. عموما، كان نظامها مشابه لعصر النهضة في ايطاليا.
ومع ظهور الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر انتقلت انجلترا من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، بدءا بالمنسوجات الصوفية البسيطة، ومع اختراع المحركات البخارية من قبل جيمس واط عام 1769، فتح المجال أمام إنشاء مصانع ضخمة। هذه المصانع تطلبت وجود نظام محاسبي على درجة عالية من التطور، كذلك وجود مراجعة حسابات. فكان قانون الشركات عام 1845 الذي حفز على تطوير المعايير المحاسبية، ووضع القوانين التي تكفل حق المستثمرين. ومع وصول الثورة الصناعية إلى الولايات المتحدة، بدا التفكير بشكل جدي في تطوير نظرية علمية للمحاسبة، وذلك من خلال توليفة من الجهود قام بها أفراد ومنظمات وهيئات مهنية وأكاديمية. حيث شكلت بدايات القرن العشرين، خصوصا عام 1922 البداية الفعلية للبحث العلمي في مجال صياغة إطار عام لنظرية المحاسبة، وذلك من خلال الكتاب الذي نشره William Paton والذي ركز فيه على دراسة فرضية الوحدة المحاسبية، وقد شكلت دراسة Paton مدخلا للعديد من الدراسات والأبحاث العلمية في هذا المجال.